كامل مهنا  | رئيس مؤسسة عامل الدولية | جريدة الأخبار

أمام رحيل جورج قرم أجد حزني مضاعفاً، لأنني بفقده خسرت أنا و«مؤسسة عامل» صديقاً ودوداً، ومسهِماً فعّالاً في إضاءة الطريق الذي نسلكه معاً، بأفكاره وآرائه التي كان يهدينا إياها بسخاء، ورغبة في تطوير التجربة، وتقدم المجتمع. وبفقده خسر العالم مفكراً كبيراً، وخبيراً اقتصادياً ومالياً، وإنساناً همه أن ينشر الوعي في المجتمع، بكل ما قدم من مؤلفات باتت مراجع مهمة لأجيال مقبلة.لقد غمرني الحزن عليه، قبل أسبوع واحد من رحيله، عندما دعوته إلى الغداء، مع ممثل الأمين العام السابق للأمم المتحدة في لبنان روس ماونتن، وأصدقاء آخرين، ولاحظت حينها تراجع وضعه الصحي، وذبول الحياة في وجهه، فكان ذاك اللقاء بمنزلة الوداع الأخير له، والصورة الأخيرة المؤلمة التي علقت بالذاكرة.

لن ننسى تلك القامة اللبنانية العربية العالمية، وتلك الخسارة الكبيرة التي طاولت كل من عرفه وصادقه، وكل من تتلمذ على يديه، كأستاذ جامعي مؤثر، وكل من قرأ كتبه وأبحاثه في الشرق والغرب.
ما يميز علاقتنا أنها لم تكن حصيلة المرحلة الطالبية أو مرحلة الشباب، كما تحصل العلاقات عادة، إنما أتت في عمر مختلف، وامتدت إلى عائلتينا، عبر زيارات متبادلة، فكنا نأنس لجلساته وأحاديثه، مستمتعين بفكره وبسمته المضيئة.
أول معرفتي به كانت عبر أصدقاء مشتركين، عندما أسس في فرنسا (وفي لبنان) «حركة مواطن»، وبدأ التناغم بيني وبينه حينها، إلى أن عدنا والتقينا في لبنان، ووجدنا نفسينا معاً من أصدقاء الرئيس سليم الحص، بالإضافة إلى أصدقاء آخرين مشتركين، بينهم د. مصطفى حجازي، ود. نجيب عيسى ود. سمير مقدسي. وتوسعت العلاقة أكثر، عندما بدأ يتردد على «مؤسسة عامل»، وبحكم موقعه في الجامعتين الأميركية واليسوعية كان يرسل إلى «عامل» متطوعين من الطلاب، وكان بين المتطوعين حفيدته وابنة شقيقته. ثم انضم إلى هيئة الرعاية الوطنية لمشاريع «عامل» التي يرأسها الرئيس الحص (عافاه الله وشفاه).
وعندما صدرت سيرتي الذاتية «ملحمة الخيارات الصعبة»، وقرأها، لفتت نظره، وبادرني باقتراح ترجمتها إلى الفرنسية والإنكليزية، معرباً عن استعداده لكتابة مقدمة للترجمتين، وأصر على أن يشرف على الطبعة الفرنسية الثالثة، ابتغاء للدقة، وإبداءً لاهتمام بمضمون السيرة، وقد نشرت تلك الطبعة عبره في دار «لارماتون» الفرنسية. وعندما سألته عما أعجبه في السيرة؟ قال لي: أنت مناضل صامت، اخترت عملاً صعباً، عندما رحت تعمل في الريف عملاً مدنياً غير طائفي، فكانت تجربة غنية وناجحة، لذا يجب أن يقرؤوا تجربتك هذه في الغرب.
وعلى امتداد لقاءات عدة بقي جورج قرم يناقش معي ما قرأه في السيرة، كأنما أراد أن يتعمق أكثر في معرفتي، وهكذا تمتّنت العلاقة بيننا، ولمّا تعرّف إلى تجربة «مؤسسة عامل الدولية»، ولاحظ توسعها، وانتشار أنشطتها في الغرب وبلاد أخرى، وكنا قد عزمنا على الترشح لجائزة «نوبل للسلام»، طلبنا منه أن يقوم بترشيحنا للجائزة، بصفته شخصيةً معنوية بارزة، فكان لنا ذلك، بكل رحابة وترحيب، علماً أننا وإياه نعلم أن الجائزة سياسية وتغرّب عنا، لكننا، مع ذلك، أصررنا، ولثماني سنوات، على أن نكرر سنوياً الترشيح، من دون أن يكون الهدف نيل الجائزة، بقدر ما يشكل محاولة للضغط في اتجاه أن تكون الجائزة عادلة.
كان جورج قرم، على حد تعبيره في حوار جرى معه، فخوراً بتقديمه ترشيحنا للجائزة، كمؤسسة إنسانية مستقلة لاطائفية، ملتزمة بقيم العدالة الاجتماعية وخصوصاً قضية فلسطين، قادرة على تغيير حياة الناس، ومستجيبة للأزمات الإنسانية، ولا سيما أزمة اللاجئين، على حد قوله. وكان يعبّر عن اقتناعه بجهود المؤسسة ونضالاتها، للحد من خطورة التصادم الذي يمكن أن يقع بين النازحين وأبناء المجتمع اللبناني، مثبتة (أي «عامل») أن الاعتبارات الإنسانية فوق كل اعتبار. وكم مرة أكد أننا نستحق الجائزة، وأنه في غاية السعادة والحماسة لترشيحنا لها.
وعندما أردت إصدار كتاب «مواجهة الاستثمار المفرط لمفهوم المجتمع المدني»، لم يتأخر في كتابة مقدمة للكتاب، إلى جانب د. مصطفى حجازي. وهو كان يميز بين منظمات المجتمع المدني التي تستورد نموذجها من الخارج، وتلك التي تعمل في المجتمع من دون أي دافع خارجي.
توثقت العلاقة بيننا أكثر فأكثر، حتى باتت شبه يومية، وكنا نلتقي معاً شخصيات مؤثرة، أمثال جان بول شانيلو وبيار بلان، وكلما زارت وفود أجنبية مهمة مراكز المؤسسة، كنا ندعوه للمشاركة في الاجتماعات معها، لتقديرنا بأهمية حضوره والمداخلات التي يغني بها كل لقاء. فكان حاضراً عندما زار الرئيس ماكرون مركز «عامل» في عين الرمانة، وتحدث معه عن القضية الفلسطينية، وكذلك فعلت. وقدمنا معاً رؤيتنا حول مصلحة بلادنا وازدواجية المعايير في الغرب، ونحثّ على الالتزام بالقضايا العربية العادلة.
لقد كان الموضوع الفلسطيني أثيراً بيننا، فكثيراً ما دعا إلى الكفاح من أجل استعادة حقوق الشعب الفلسطيني. وفي الحوارات التي تدور مع الأصدقاء، كما في مؤلفاته، رأى أن الغرب يرفض، ومعه الأمم المتحدة، تقديم حماية دولية للشعب الفلسطيني الذي لم يستطع بسط سلطته على 22% من أراضيه الفلسطينية، بل الغرب يدع الجيش الإسرائيلي يمارس كل أساليب العنف، وعندما يردّ الفلسطيني على العنف بالعنف يوصف بـ«الإرهابي». أمّا إسرائيل، فيصفها الغرب بأنها إنما «تدافع عن نفسها»، ولكنها، وأمام أعين العالم، تفعل ذلك بالتنكيل والتدمير والإبادة العنصرية، بل بنشر المزيد من المستوطنات في أراضي الـ67. وقد بقي الغرب يلعب دوره وفقاً للعبارة المختصرة التي كان يكررها القرم: «الغرب إطفائي مغرم بالحرائق».
وكثيرة هي المشكلات التي كانت تثير حفيظة جورج قرم، وتشغل باله، هو المفكر الهادئ والجريء في آن، وقد شغلته التحديات الكثيرة التي تواجه المجتمع العربي، فكان يعتبر أن ما يجري من حروب وتدمير لدول ومجتمعات عربية، يجب أن يشجعنا على التفكير، أولاً، في السلام بين العرب أنفسهم، ثم في كيفية مواجهة أي عدوان خارجي. فنسيج المجتمع العربي مصاب بالتفكك، وأهمية العمل الذي تقوم به بعض المنظمات الإنسانية، يكمن في مقارعة الفقر وتخفيف معاناة المهمشين.
لاحظ جورج قرم أنّ تسلمه وزارة المالية أغنى تجربته، كونه عاين واقع الأداء الحكومي من الصفوف الأمامية، وكثيراً ما أفاد بأن لبنان وقع ضحية فساد متعدد الأشكال، على يد حفنة من أصحاب النفوذ السياسي والاقتصادي والإعلامي والمالي، المستفيدين من دعم غير محدود من حكومات عربية ومنظمات تمويل دولية ودول غربية.

كان يعتبر أن ما يجري من حروب وتدمير لدول ومجتمعات عربية، يجب أن يشجعنا على التفكير، أولاً، في السلام بين العرب أنفسهم، ثم في كيفية مواجهة أي عدوان خارجي

اهتم صديقنا بموضوع العولمة، فكتب الكثير في مناهضتها، وكان تواقاً للوصول إلى التعددية القطبية، وخفض النزاعات العسكرية، وإزالة ترسانات أسلحة الدمار الشامل. ورأى إمكانية تآكل التماسك في السلطة المعولمة التي قد يؤدي إليها تراجع الولايات المتحدة وأوروبا، وصعود الاقتصادات الناشئة، فالتغيير أمر عاجل وضروري في رأيه.
منذ زمن وهو يرى أن العلمانية تفقد أي مصداقية في الخطاب الغربي، ومن دونها لا يمكننا الحفاظ على النظام الدولي، ثم يستشهد بأرنولد توينبي بقوله «إن الجوانب العلمانية في الحضارة الغربية ليست إلا مرحلة عابرة بالضرورة». وصحيح أن أيديولوجيا التقدم والعقل تغلبت على كل أشكال خلاص البشرية عبر الدين، لكن، في نهاية المسار تصبح تلك الأيديولوجيا نفسها ذات طابع مقدس، إن كانت رأسمالية أم اشتراكية.
الأسئلة الفكرية كانت كثيرة بيننا، إذ كنا نحب، نحن أصدقاؤه، أن نستمع إلى آرائه وأفكاره وتحليلاته العميقة، هو المفكر المتنور المستقل الدارس المتابع لقدماء المفكرين والحديثين منهم، يختبر ما يقرأ، ويقول قناعته بحرية ومسؤولية. وسوف تبقى مساهماته زاداً فكرياً للدفاع عن حق العرب في الاستقلال والنهضة.
نحفظ عنه النداء الذي كرره في أكثر من كتاب والذي يقول فيه: «يا أنصار الجمهورية والعدل في جميع الأمم وجميع الإثنيات والأديان، وجميع الخلفيات الأكاديمية، اتحدوا».
نعزي أنفسنا قبل أن نعزي أسرة جورج قرم العزيزة