يعيش ديفيد في جونية، غرفة هي منزله الكامل، تفصِل ستارة شفّافة مطبخَه عن سريره وأمامه أريكة خشبية الجوانب عليها كيس كبير من الأدوية المختلفة، وعلى رغم أنّ الشمس لا تصل غرفته إلاّ أن رائحة النظافة والصابون تفوح في أرجائها، فجيمي الشاب المراهق لا يفارق والده، يهتّم بأبيه كطفل صغير، يُطعمه، يحمّمه، يعطيه الدواء، ويحاول أن يخرجه من صمته العميق، إلاّ أن صحة الوالد النفسية تدهورت كثيراً في الفترة الأخيرة حتى بات لا يتكّلم أبداً ولا يتفاعل مع ابنه، عيناه شاخصة إلى البعيد، قلبه ينبض بدون حياة.
ديفيد مهاجر أتى من الكونغو ليعمل في لبنان منذ أكثر من عقدين، وفي سنة 1985 تعرّض للصدم بحادث سيارة بعد أن فرّ السائق هارباً وتركه يكابد تبعات الحادث الصحية وحيداً إلى أن وصل به الأمر مقعداً في الفراش عاجزاً عن الحركة أو العمل، فما كان من إبنه المراهق إلاّ أن يلازم أبيه المريض، ترك الدراسة والعمل وتخلّى عن حياته كشاب، وأصبح المسؤول الأول والأخير عن الإهتمام بوالده وتأمين الطعام والشراب والأدوية بمساعدة بعض أصحاب الأيادي البيضاء …
معاناة ديفيد يجب أن تخرج إلى العلن، حتى يتسنى له الحصول على حقه في رعاية صحية كريمة، ولأن وضعه النفسي متأزّم جدا، فلا يمكنه الخروج من المنزل والذهاب الى الطبيب، الأمر الذي يتطلب مساعدة خاصة ومتخصصة، قرّرت مديرة مركز بشّارمهنا ومسلم عقيل الدكتورة لميا رمضان ان تتابع وضع دايفيد من خلال دفع ايجار غرفتهو تأمين مستلزمات الحياة الأساسية له، لكن حالته تحتاج إلى رعاية عاجلة، تؤكّد رمضان ” أنّه شبه منفصل عن الواقع، في حالة ينفطر لها القلب”. وهذا أبعد من إطار عمل مركز بشار مهنا ومسلم عقيل المعني بمتابعة أوضاع المهاجرين والمهاجرات ومساعدتهم على مواجهة الصعوبات الإقتصادية والقانونية بالإضافة إلى تأمين الخدمات الطبية بكافة الإختصاصات والأدوية.
قد تكون بلاد الغربة هي المصطلح الأكثر تعبيراً عن واقع المهاجرين في لبنان، فهم المهمّشون عن نظام الحماية الاجتماعية والرعاية الصحية، يعتمدون على برامج ومساعدات لا تتسم بالاستمرارية، وبالتالي يعيشون قلق اللحظة والحاضر، قد لا يستطيعون العودة من حيث أتوا، والبقاء بأوضاعهم الراهنة هو موت بطيء لهم.
حالة ديفيد واحدة من مئات الحالات البعيدة عن أضواء الكاميرات، ولكن يُعوّل على المؤسسات الاجتماعية والمنظمات المدنية لتغطية عجز الدولة اللبنانية في رعاية قاطني أراضيها ولكن الأزمة الاقتصادية التي يمر بها البلد زادت العبء عليهم، وأصبح الوصول إلى الخدمات الأساسية مرهوناً ببرامج محددة المدة والتمويل، ما ينذر بصعوبات مستقبلية تزيد من عجز الشرائح الضعيفة عن الوصول إلى الحقوق الإنسانية الأساسية.