لم يقتصر أثر الحروب والنزاعات والانهيارات الاقتصادية، التي وُسم بها القرنين العشرين والحادي والعشرين، على الأضرار المادية والبيئية والسياسية والصحية، وإنما كانت هذه الأحداث مساهماً رئيساً في انهيار “الصحة النفسية” لعدد كبير من الشعوب والجماعات، في ظل تطور الأسلحة وتوسّع ميادين الحروب، خصوصاً تلك الفئات المهمشة ودول العالم الثالث التي أصبحت أراضيها، منصة لحرب الوكالات العالمية.

فـ”الصحة هي حالة من اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً، لا مجرّد انعدام المرض أو العجز” بحسب التعريف المعتمد من منظمة الصحة العالمية، وهناك عدة أشكال لاضطرابات الصحة النفسية، أبرزها الأكتئاب على سبيل المثال، الذي ارتفع منذ عام 2005 عالمية بنسبة تجاوزت الـ 18%، فبحسب المنظمة، يعتبر الاكتئاب أحد الأسباب الرئيسية للعجز في جميع أنحاء العالم! حيث يعاني ما يقدر بنحو 615 مليون شخص من جميع الأعمار، حول العالم، من الاكتئاب. ويتأثر عدد أكبر من النساء بالاكتئاب مقارنة بالرجال. وإن عبء الاضطرابات النفسية آخذ في التزايد مع إحداث تأثير كبير على الصحة وعواقب كبرى اجتماعية واقتصادية وفي مجال حقوق الإنسان في بلدان العالم كافةً”.

فئة الشباب التي شكلت التركيز الأساسي لمنظمة الصحة العالمية لهذا العام 2018، هي فريسة مهمة لمعظم الاضطرابات، خصوصاً أن نصف الأمراض النفسية تبدأ عند عمر الـ14 بحسب تقرير المنظمة الأخير.

مضاعفات أخرى، مثل الخرف مثلاً، من المتوقع أن ترتفع إلى ثلاثة أضعاف بحلول الأعوام المقبلة، من 50 مليون إلى 152 مليون إنسان! وعالرغم من أن الخرف مرتبط بأسباب عضوية بدرجة كبيرة، إلا أنه أيضاً يعتبر أحد الاضطرابات النفسية التي تتأثر بالظروف الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية، حيث يؤكد المدير العام لمنظمة الصحة العالمية (المنظمة)، الدكتور تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، بأن الخرف يصيب نحو عشرة ملايين شخص كل عام، ولكن منهم ستة ملايين شخص في البلدان المنخفضة الدخل والبلدان المتوسطة الدخل!.

وتقدّر التكلفة السنوية لرعاية الأشخاص المتعايشين مع الخرف في العالم بنحو 818 مليار دولار أمريكي، أي ما يتجاوز 1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ومن المتوقع أن تُجاوز هذه التكلفة الضعف بحلول عام 2030 لتبلغ تريليوني دولار أمريكي.

ونتيجة لتفاقم هذه الأزمة العالمية، أطلقت منظمة الصحة في العام 2013، خطة عمل خاصة بالصحة النفسية لتغطي فترة 2013-2020، وتهدف هذه الخطة بشكل رئيسي إلى تعزيز فعالية القيادة وتصريف الشؤون في مجال الصحة النفسية؛ إضافة إلى تدعيم نظم المعلومات وجمع البيِّنات وإجراء البحوث وتقديم خدمات الصحة النفسية وخدمات الرعاية الاجتماعية الشاملة والمتكاملة في البيئات المجتمعية، ولكن عالرغم من الجهود العالمية لا تزال أوضاع الصحة النفسية للشعوب تنذر بالخطر.

فالنظم الصحية بحسب المنظمة، لم تستجب حتى اليوم بشكلٍ كافٍ حتى الآن لعبء الاضطرابات النفسية؛ لذا فهناك فجوة كبيرة بين الحاجة إلى العلاج وتوفيره في جميع أنحاء العالم. وهناك ما بين 76% إلى 85% من المصابين باضطرابات نفسية لا يتلقون أي علاج لحالتهم في البلدان المنخفضة الدخل وتلك المتوسطة الدخل. ويعاني ما بين 35% إلى 50% من المصابين باضطرابات نفسية من الأمر ذاته في البلدان المرتفعة الدخل.

ومن المشاكل التي تزيد الوضع سوءاً تدني جودة الرعاية المقدمة لكثير من المصابين الذين يتلقون العلاج. 

 

واقع العالم العربي:

يتصدر العالم العربي بحسب الاحصاءات الرسمية لمنظمة الصحة والبنك الدولي، قائمة الدول التي يعاني أبناؤها من اضطرابات الصحة النفسية، وعلى وجه الخصوص مرض الاكتئاب، خصوصاً أن أكثر من ٧٥٪ من الأشخاص في الدول النامية لا يحصلون على العلاج لهذا المرض، حيث تشير تقديرات المنظمة إلى أن شخصاً واحداً من كل 5 أشخاص في إقليم شرق المتوسط يصاب بالاكتئاب والقلق، وذلك في ظل تزايد حالات الطوارئ الإنسانية والنزاعات.

إحصائيات البنك الدولي تبيّن أن ٧ بلدان من أصل ١٠ تتصدر العالم في ظاهرة الاكتئاب عند النساء هي بلدان من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا! وهنا يجدر الذكر بأن الاكتئاب يفاقم مخاطر العديد من الأمراض والاضطرابات الخطيرة، منها الإدمان والسلوك الانتحاري، وأمراض القلب والسكري والتي تعد من أكثر أسباب الوفاة شيوعاً في العالم.

في مصر على سبيل المثال، صدر عن مؤتمر الأمانة العامة للصحة النفسية، العديد من الاحصاءات حول انتشار الأمراض النفسية فى مصر التي تتراوح ما بين 15 إلى 20% من السكان! حيث تقدر أعداد المرضى بين 14 و18 مليون شخص، فيما تصيب أعراض القلق والاكتئاب والخوف، نحو 50-60% من الشعب المصري بشكل سنوي.  

حالة لبنان:

إن لبنان الذي لم يشهد حالة استقرار اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية منذ أكثر من نصف قرن، يحتل مراتب متقدمة في قائمة الشعوب التي تعاني من اضطرابات ومشاكل في الصحة النفسية، خصوصاً أن معدلات الانتحار على سبيل المثال قد ارتفعت بشكل مخيف في العام 2018، ففي حين كان المعدل السنوي لحالات الانتحار المسجلة في لبنان  بين 110 و150 حالة سنوية، شهدت الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي مئة حالة انتحار معظم من الشباب والشابات مسجلة بحسب قوى الأمن الداخلي.

أكثر من ذلك، يبيّن تقرير الجهات الرسمية اللبنانية أن هناك محاولة انتحار في لبنان كل 6 ساعات! حيث أن واحد من كل أربعة أشخاص لبنانيين يختبر مشكلة نفسية في حياته بحسب جمعية «Embrace» لدعم ونشر الوعي حول الصحة النفسية في لبنان، فيما تشكل النساء نسبة 61% من هذه النسب المرعبة! أما بالنسبة للاكتئاب والأمراض الاخرى فليس هناك اي احصاء رسمي حولها.

وعلى أثر هذه الوقائع المدويّة، أطلقت وزارة الصحة اللبنانية  في العام 2017 الحملة الوطنية للصحة النفسية، حيث اعتبر وزير الصحة غسان حاصباني أن “الصحة النفسية مسألة ذات أهمية محورية في كل انحاء العالم، حيث أنه لا صحة من دون صحة نفسية”، خصوصاً أن خدمات الصحة النفسية العالية الجودة غير متوفرة للعدد الأكبر من اللبنانيين، فبحسب حاصباني 9  من كل ١٠ أشخاص يعانون من اضطرابات نفسية لا يمكنهم الوصول إلى الرعاية التي يحتاجون إليها. 

دور مؤسسة عامل:

تعتبر مؤسسة عامل الدولية أن الصحة النفسية جزء جوهري ضمن الصحة العامة للإنسان والمجتمعات، فهي تناضل من اجل بناء إنسان صحيح في جسمه وعقله ونفسيته، إذ واظبت على ادماج تدخلات الصحة النفسية بكافة برامجها الصحية – التنموية، فإلى جانب تأمين استشاريين نفسيين واجتماعيين دائمين في مراكزها الـ24 وعياداتها النقالة ووحداتها التعليمية، فهي تعمل حالياً ضمن مركزها في البازورية على مشروع رعاية صحية نفسية يطال حوالي 350 شخصاً بشكل شهري، فالمركز الذي حصل على شهادة الجودة الدولية ضمن شبكة الرعاية الصحية الأولية التابعة لوزارة الصحة، ينفذ بالتعاون مع شركاء محليين بنود برنامج الصحة العالمية لرأب الفجوة في الصحة النفسية.

وقد شهد شهرا أيلول وآب الماضيين حوالي 60 حالة اكتئاب مزمنة عند مستفيدي المركز ومعظهم من النازحين السوريين الذين يرزحون تحت ظروف صعبة جداً على مستويات مختلفة، حيث تم تشخيصها عبر فريق المركز المدرب، ويتم حالياً العمل لمعالجتها على أطر متنوعة لمكافحة هذه الآفة التي تعطل الطاقة البشرية، وتنعكس سلباً على المجتمع الإنساني برمته وخصوصاً فئة الشباب التي تشكل عصب المجتمع ومكمن التغيير فيه، وتعتبرها مؤسسة عامل إحدى أبرز المشكلات العالمية التي تتطلب جهوداً جبارة ونضالات.

تتبع مؤسسة عامل سياسة الوقاية في كافة الميادين التي تعمل ضمنها، وخصوصاً في مجال الصحة النفسية، لذلك قامت بتدريب كافة عامليها الصحيين والاجتماعيين على تمييز حالات الاضطرابات النفسية وتصنيفها، إضافة إلى تحويلها إلى الجهة المناسبة، حيث نُفذت هذه التدريبات المتخصصة بالتعاون مع البرنامج الوطني للصحة النفسية في وزارة الصحة ومنظمة الصحة العالمية، خلال السنوات الماضية.

وهي تنفذ نشاطات تفريغ نفسي فنية واجتماعية، مع فئة الشباب، عبر تقنيات التعبير الحر أو الدرامي، بهدف خلق بيئة وقائية لهذه الفئة التي تشكل الضحية الكبرى للاضطرابات النفسية، خصوصاً بين النازحين واللاجئين الذي تعرضوا لصدمات نفسية كبيرة في ظل الحروب والنزاعات.

إضافة إلى هذا البرنامج، تعمل مؤسسة عامل مع الأطفال ضمن سياسة الوقاية والتحويل العلاجي ضمن مشروعها المتخصص لحماية الطفل، الذي ينفذ بالتعاون مع منظمة اليونيسيف، مع فئة الأطفال بين 6 و16 عاماً، ويتضمن بشكل أساسي رعاية نفسية واجتماعية تطال حوالي 6000 طفل بشكل سنوي.

ما هو الاكتئاب بحسب تعريف منظمة الصحة العالمية؟

يمكن وصف الاكتئاب بأنه الشعور بالحزن، وعدم الاهتمام أو التمتع بالأشياء، والشعور بالذنب أو قلة تقدير الذات، واضطراب النوم أو الشهية، والإحساس بالتعب، وضعف التركيز. وقد يعاني المصابون بالاكتئاب كذلك من شكاوى بدنية متعددة دون سبب جسماني واضح. وقد يكون الاكتئاب طويل الأمد أو في شكل نوبات متكررة، مع إضعافه بصفة أساسية لقدرة المصابين به على الأداء في العمل أو في المدرسة وعلى التعامل مع الحياة اليومية. وقد يؤدي الاكتئاب إلى الانتحار، في أشد حالاته.

وهناك وسائل علاج فعالة للاكتئاب؛ إذ يمكن علاج حالات الاكتئاب الطفيفة إلى المعتدلة بفعالية عن طريق العلاج بالتحدث، مثل علاج السلوك الإدراكي أو العلاج النفسي. ويمكن أن تكون مضادات الاكتئاب شكلاً فعالاً لعلاج الاكتئاب المعتدل إلى الحاد، ولكنها لا تمثل الخط الأول من العلاج لحالات الاكتئاب الطفيف. وينبغي ألا تستخدم لعلاج الاكتئاب لدى الأطفال، كما أنها لا تعتبر خط العلاج الأول لدى المراهقين، حيث ينبغي توخي الحذر في استخدامها معهم.

وقد تبين أن برامج الوقاية تحد من الاكتئاب، سواء للأطفال (مثال: عن طريق الحماية والدعم النفسي في أعقاب الاستغلال البدني والجنسي)، أو للبالغين (مثال: عن طريق المساعدة النفسية الاجتماعية بعد الكوارث والصراعات)