خلال العام 2014، تحدث تقرير التنمية البشرية التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، عن أرقام وحقائق مهمة عن مجال الصحة عالمياً، وفي تعقيب حول التقرير اعتبرت مؤسسة عامل الدولية بأن المعلومات المذكورة تبيّن جلياً “حالات العبودية الصحية”، وعلى قساوة التعبير، إلا أنه يتعذر بالفعل وصف الوضع الصحي العالمي بطريقة أقل وضوحاً وجدية من ذلك، في ظل تصاعد خطابات الفنادق حول التنمية وحقوق الإنسان!
إن انعدام الأمن الصحي للإنسان المتوازي مع انعدام الأمن الاجتماعي عموماً، يدل أننا إزاء أزمة حضاربة شاملة ترقى إلى مستوى القلق الوجودي العام على مستقبل الجنس البشري، بل ومستقبل الكوكب. ويدعم هذا الرأي هول البؤس الإجتماعي وشدة الشقاء الإنساني في العالم، فإن عدد البشر المعرضين للفقر المتعدد الأبعاد في العالم يبلغ حوالى 2.2 مليار شخص. من بين هؤلاء الفقراء ثمة 1.5 مليار شخص يعيشون فعلاً في فقر متعدّد الأبعاد. إن هذه المأساة التي يسببها الإقتصاد السياسي للنظام الدولي تتركز في المناطق الريفية. هناك حيث يعيش ثلاثة أرباع فقراء العالم ويموت جزء كبير منهم كل يوم بسبب غياب الرعاية الصحية ومن بينهم ملايين الأطفال والنساء المهددين بالموت في اليمن نتيجة عدم توفر الرعاية الصحية، وآخرين في سوريا، فأرقام البنك الدولي أظهرت مؤخراً أن نصف وفيات الحرب السورية هي نتيجة لغياب الرعاية الطبية!


وقد كانت مؤسسة عامل الدولية وفي ظل هذه المعطيات الكارثية، قد حرصت منذ نشوئها بقيادة الطبيب كامل مهنا، على إعطاء أولوية العمل الإنساني للجانب الصحي، على قاعدة أنه لا يمكن الحديث عن التنمية والتمكين في ظل وجود إنسان مريض جسدياً وحياته مهددة بالخطر لأسباب شتى، أحدها صحي! وهي تناضل مذاك من أجل تحقيق سياسات صحية وقائية، تخفض فاتورة الطبابة في لبنان وتعزز ثقافة الوقاية والوعي حول أهمية صحة الإنسان في عملية التغيير الاجتماعي – السياسي.
وعي مبكر
بدأت عامل في تقديم الرعاية الصحية الأولية بشكل تطوعي في العام 1979، في ظل حرب أهلية دامية، عبر فريق صحي – اجتماعي يتحدر من مختلف المشارب الاجتماعية والسياسية، يخاطر بحياته بهدف انقاذ حياة الإنسان اللبناني بغض النظر عن انتمائه، وقد انعكس ذلك في مجالات اللحمة الاجتماعية وحماية الأسرة في لبنان، سواء اللبنانية أو حتى الفلسطينية اللاجئة من دون إهمال جانب التنمية وتمكين الإنسان، حيث كانت عامل السبّاقة في توأمة جانبي الطوارئ والتنمية، في محاولة لترميم ما يمكن ترميمه في المجتمع بشكل أسرع وأشمل.
وعلى الرغم أن العالم العربي وبلدان الجنوب عموماً، تعج بالأزمات السياسية والحروب والنزعات التي تشكل واحدة من ابرز عوامل تهديد حياة الإنسان، إلا أن عوامل اخرى أيضاً نبهت لها عامل في تقاريرها الصحية الدورية التي بدات بالصدور في منتصف ثمانينات القرن الماضي.
أما اليوم في 2018، وفي يوم الصحة العالمي، نجد أن مصادر تهديد الصحة الإنسانية في العالم كثيرة وتزداد في الوقت الراهن. فقد تسارع انتشار فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، وتفشي الملاريا والسلّ، وحمى الضنك وإنفلوانزا الخنازير, لكن ثمة مخاطر غير مرضية تهدد الصحة العامة، مع تزايد مخاطر الإرهاب البيولوجي، وتزايد أضرار البيئة والكوارث الطبيعيّة بسبب تغير المناخ. كما أن التصنيع الكثيف والتوسع العمراني السريع، وضع كثيراً من الدول أما مشاكل ندرة المياه وتردّي خدمات الصرف الصحّي، وتدهور الأراضي وتآكل التربة، وتلوّث الهواء، ومشاكل تهدّد التنوّع البيولوجيّ.


ويعد الفقر الذي تحاول عامل مكافحته، وخصوصاً الفقر الريفي المفجع، عاملاً رئيسياً في تدهور الصحة في العالم، وفي انعدام الأمن الصحي. وبحسب تقارير دولية فإن حوالي %20 في المائة من سكان العالم يحظون بتغطية كافية من الضمان الاجتماعي، بينما يفتقر أكثر من %50 في المائة إلى أي نوع من أنواع الضمان الاجتماعي. ووفقاً لمنظّمة العمل الدوليّة، يقتصر تقديم الحماية الاجتماعية الشاملة لجميع المواطنين على ثلث دول العالم، أي على حوالي 28% في المائة من سكان العالم.
ولا شك أن الصدمات الصحيّة من أخطر الصدمات على أمن الأسرة والمجتمع. كما أنّ الجوع وسوء التغذية يؤدّيان إلى تفاقم مخاطر الصحّة الناجمة عن الفقر. فإذا أصيب المعيل الأساسي في الأسرة بمرض، يمكن أن تؤدي إصابته إلى إفقار الأسرة وبقائها في حالة الفقر. وقد أشارت بيانات حديثة إلى أنّ أكثر من %40 في المائة من المرضى في المستشفيات يقترضون الأموال أو يبيعون أصولهم لتسديد كلفة العناية الصحيّة، كما أنّ %35 في المائة منهم يقعون في حالة الفقر.
الوضع اللبناني
في لبنان، تبين الاحصاءات أن حوالي 50% من اللبنانيين غير مشمولين بالتأمينات الصحية، باستثناء ما تقدمه لهم وزارة الصحة العامة من خدمات. وتتلخص المشكلة الصحية – الاجتماعية، في واقع عدم تساوي الفرص كماً ونوعاً أمام اللبنانيين في الحصول على الخدمات الصحية، الوقائية والعلاجية والمرتبطة بمستوى الدخل وبالتفاوت المناطقي في توفر الخدمات الأساسية .
لقد بلغ في العام 1996، عدد المستشفيات العاملة في لبنان 164 مستشفى عاما منها 25 مستشفى حكوميا” وعدد المستوصفات والمراكز الصحية 860، 100 تابعة للدولة و 760 للقطاع الاهلي (من ضمنها 186 مركزاً تدخل ضمن “الشبكة الوطنية لمراكز الرعاية الصحية الاولية) ما يؤدي الى الخلاصة التالية: أن لبنان يعتمد على الصعيد الصحي في مجمله على القطاعين الخاص والاهلي، وعلى الطبيعة العلاجية للخدمات، خاصة وانه قد حدث تراجع نوعي وكمي في اداء القطاع الحكومي، فقبل سنوات المحنة، كانت وزارة الصحة في العام 1971 تدير 21 مستشفى حكوميا”، ولم تكن تؤمن اكثر من 26% من العدد الاجمالي للاسرة الاستشفائية الموجودة في البلاد، اضافة الى ذلك، كانت الصحة تنفق حوالي 30% من ميزانيتها السنوية على الاستشفاء والمستشفيات الخاصة، ومنذ العام 1975 ، اصاب الشلل معظم مؤسسات وزارة الصحة، ما أدى الى تراجع كبير في خدماتها. وفي العام 1984، انخفض عدد المستشفيات الحكومية من 25 الى 14 مستشفى تعمل بشكل جزئي بسبب الاضرار التي لحقها خلال الحرب، اذ لا يستعمل سوى حوالي 20% من عدد الاسرة الموجودة فيها وانخفض عدد المستوصفات الحكومية التي تعمل بشكل مقبول الى 13 فقط، اي حوالي 6% من اجمالي المستوصفات الحكومية. وهذا الامر ، دفع وزارة الصحة الى زيادة تمويلها للاستشفاء في القطاع الخاص وبطريقة غير مدروسة ما جعل كلفة الاستشفاء على نفقة الوزارة تصل الى 97% من ميزانيتها السنوية، حيث تشير الدراسات ان ما انفقته وزارة الصحة على الاستشفاء في القطاع الخاص ارتفع من 14 مليون دولار عام 1991 الى 60 مليون دولار عام 1994 ليصل الى 100 مليون دولار عام 1996، وهي بارتفاع مستمر، ومن ضمنها فقط 3% لبقية النشاطات والبرامج، مما ينعكس سلبا” على برامج الرعاية الصحية الاولية، هذا إضافة إلى فاتورة الدواء المرتفعة وملفات الهدر.
إن هذه الزيادة الحادة في الانفاق الصحي والتي باتت تزيد على ملياري دولار سنوياً (بعض المصادر تقدرها بـ3,2 مليار للعام 2014) من الدخل القومي لابد وان تؤدي الى تهديد النظام الصحي القائم، حيث يتبين مما سبق ان الانفاق على الصحة قد بلغ سقفا” عاليا”، والملاحظ ان ارتفاع الكلفة الصحية لم يؤد الى تطوير مواز في الخدمات الصحية على صعيد المناطق والفئات الاجتماعية. فهناك توزيع جغرافي سيئ للخدمات الصحية من قبل معظم القطاعات الصحية حيث يتمركز أكثر المؤسسات الصحية والاختصاصين في المدن الرئيسية مقارنة بالمناطق الريفية.
ويلاحظ المستوى نفسه من التفاوت بين العاصمة والمناطق المدينية من ناحية، وبين المناطق الريفية النائية من ناحية ثانية. وينتج عن هذا التفاوت المناطقي – الجغرافي أن 60% من وفيات الأطفال يسجل في محافظتي البقاع والشمال رغم أنهما لا تحويان سوى 25% من أطفال لبنان .
هذا التفاوت يلحظ في مختلف المؤشرات الصحية العامة بتوزع الأسرة في المستشفيات. ويلاحظ، بالإضافة إلى التفاوتات المناطقية، تفاوتات داخل هذه المناطق بين مراكز المحافظات، ثم مراكز الأقضية، وبين غالبية قرى الريف، حيث يظهر الترابط بين الفقر والأوضاع الصحية، ومن بين دلالات هذه التفاوتات أن نتائج المسح اللبناني لصحة الأم والطفل أشارت إلى 12.2% من الأطفال الذين يعانون من قصر القامة (نقص الطول نسبة إلى الصحة، وهو يعبر عن سوء تغذية مزمن)مع لحظ تفاوتات مناطقية هامة (نقص الوزن 1% في جبل لبنان، و9.8% في الجنوب. وقصر القامة 4.9% في بيروت وجبل لبنان، و31.2% في البقاع) .
يضاف إلى ذلك معاناة حوالي 300.000 فلسطيني يعيش أكثر من نصفهم في المخيمات في ظروف صعبة كما أن هناك حوالي مليون ونصف مليون نازح سوري يعيشون في ظروف بائسة وفي أماكن غير مخصصة للسكن، يعتمدون بشكل كامل على المنظمات الإنسانية للحصول على الرعاية الصحية، ومن بينها 24 مركزاً لمؤسسة عامل، 13 من بينها تختص بتأمين الرعاية الصحية الأولية لهم وللمجتمع المضيف وبمعايير عالية الجودة، خصوصاً أن عدد من مراكزها قد نجح في اختبار الجودة والمعايير الصحية التابعة لوزارة الصحية اللبنانية ومنظمة الصحة.
في ظل كل ذلك، إن مؤسسة عامل لا تزال تناشد المجتمع الدولي والأمم المتحدة للضغط على الدول للاللتزام بوعودها التي أطلقوها في العام 2015 عند تصديقهم على قرار الأمم المتحدة حول أهداف التنمية المستدامة في القمة، وإلا فإن مصير هذا العالم كارثس وهومصير مشترك لكل الشعوب، فلا يظنن أحد أن الكارثة لن تطال الجزء “المستقر” من هذا العالم! فالصحة هي حق إنساني أساسي، وعدم توفر هذا الحق يعني خراباً للمعمورة وبوقت قريب.


عامل: رعاية صحية 2017
جدير بالذكر أن مؤسسة عامل قد قدمت للنازحين السوريين ضمن مراكزها المتوزعة في مختلف الاراضي اللبنانية 99810 خدمة مستوصفية و30411 خدمة علاجية وفحصية ضمن العيادات النسائية و53903 شخصاً استفادوا من صيدلياتها (أدوية، لقاحات، الخ) إضافة إلى 18065 خدمة مستوصفية لأهلنا اللبنانيين و5334 خدمة علاجية وفحصية ضمن عياداتها النسائية و6136 مواطناً لبنانياً حصلوا على أدوية مجانية وذلك غضافة إلى خدمات أخرى في مجالات التمكين والتعليم والتوعية والتدريب، ليصل عملها إجمالاً إلى تقديم حوالي مليون ونصف المليون خدمة للنازحين السوريين خلال 7 سنوات و9 ملايين خدمة لاهلنا اللبنانيين خلال أربعة عقود.